في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين اختلف بعض رجال العلم و التاريخ و الأدب ،
في وصف التاريخ بصفة العلم أو نفيها عنه فقال بعض العلماء : إن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً لأنه يعجز
عن إخضاع الوقائع التاريخية لما يخضعها له العلم من المشاهدة و الفحص و التجربة و بذلك لا يمكن استخلاص
قوانين علمية ثابتة ، على نحو ما هو موجود بالنسبة لعلم الطبيعة أو الكيمياء مثلاً .
و مما يبعد بالتاريخ عن صفة العلم في نظرهم ، قيام عنصر المصادفة احياناً ، و وجود عنصر الشخصية الإنسانية
و حرية الإرادة مما يهدم الجهود الرامية إلي إقامة التاريخ على أسس علمية .
و على الجانب الآخر يرى بعض رجال الأدب انه سواء كان التاريخ علماً أم لم يكن ، فهو فن من الفنون ،
و أن العلم لا يمكن أن يعطينا عن الماضي سوى بعض العظام المعروقة اليابسة ، و انه لابد من الاستعانة بالخيال لكي نستنطق
تلك العظام و تبعث فيها الحياة ، وهي بحاجة كذلك إلى براعة الكاتب حتى تبرز في الثوب اللائق بها، فمثلا لا يستطيع العلم الطبيعي
أن يفسر لنا حريق موسكو في عهد نابليون بونابرت سنة 1812 إلا على أساس قوانين الاشتعال و لابد من تدخل المؤرخ لكي يشرح
الأسباب والظروف السياسية و العسكرية التي أدت إلى ذلك الحريق فكل من العالم الطبيعي والمؤرخ يشرح الحادث بطريقته
و كل منهما يكمل الآخر و كلاهما ضروري لتقدم المعرفة الإنسانية .
و يرى بعض العلماء مثل (هرنشو) انه على الرغم من إننا لا يمكننا أن نستخلص من دراسة التاريخ قوانين علمية ثابتة
على غرار ما هو كائن في العلوم الطبيعية إلا إن هذا لا يجوز أن يجرد التاريخ من صفة العلم و يقول انه يكفى إسناد صفة العلم إلى موضوع ما،إذا مضى الباحث في دراسته و كان يتوخى الحقيقة و أن يؤسس بحثه على حكم ناقد بعيداً الأهواء و الميول الشخصية و كان يصبو فقط إلى إظهار الحقيقة المجردة.
و يقول : إن التاريخ ليس علم تجربة و اختبار و لكنه علم نقد و تحليل و تحقيق و إن اقرب العلوم الطبيعية شبهاً به هو علم الجيولوجيا ، فكل من الجيولوجي و المؤرخ يدرس آثار الماضي و مخلفاته لكي يستخلص ما يمكنه استخلاصه عن الماضي والحاضر على السواء و يزيد عمل المؤرخ عن عمل الجيولوجي من حيث اضطرار الأول إلى أن يدرس و يفسر العامل البشرى الإرادي الانفعالى ، حتى يقترب بقدر المستطاع من الحقائق التاريخية ، و على ذلك نجد أن التاريخ مزاج من العلم و الفن و الأدب في وقت واحد.